تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 401 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 401

401 : تفسير الصفحة رقم 401 من القرآن الكريم

** وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تّبَيّنَ لَكُم مّن مّسَاكِنِهِمْ وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدّهُمْ عَنِ السّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مّوسَىَ بِالْبَيّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الأرْضِ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ * فَكُلاّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مّنْ أَخَذَتْهُ الصّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُمْ مّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـَكِن كَانُوَاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
يخبر تعالى عن هؤلاء الأمم المكذبة للرسل كيف أبادهم وتنوع في عذابهم, وأخذهم بالانتقام منهم, فعاد قوم هود عليه السلام كانوا يسكنون الأحقاف, وهي قريبة من حضرموت بلاد اليمن, وثمود قوم صالح كانوا يسكنون الحجر قريباً من وادي القرى, وكانت العرب تعرف مساكنهما جيداً, وتمر عليها كثيراً, وقارون صاحب الأموال الجزيلة ومفاتيح الكنوز الثقيلة, وفرعون ملك مصر في زمان موسى ووزيره هامان القبطيان الكافران بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم {فكلاً أخذنا بذنبه} أي كانت عقوبته بما يناسبه {فمنهم من أرسلنا عليه حاصب} وهم عاد, وذلك أنهم قالوا: من أشد منا قوة ؟ فجاءتهم ريح صرصر باردة شديدة البرد, عاتية الهبوب جداً, تحمل عليهم حصباء الأرض فتلقيها عليهم, وتقتلعهم من الأرض, فترفع الرجل منهم من الأرض إلى عنان السماء, ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه, فيبقى بدنا بلا رأس, كأنهم أعجاز نخل منقعر {ومنهم من أخذته الصيحة} وهم ثمود, قامت عليهم الحجة وظهرت لهم الدلالة من تلك الناقة التي انفلقت عنها الصخرة مثل ما سألوه سواء بسواء, ومع هذا ما آمنوا بل استمروا على طغيانهم وكفرهم, وتهددوا نبي الله صالحاً ومن آمن معه وتوعدوهم بأن يخرجوهم ويرجموهم, فجاءتهم صيحة أخمدت الأصوات منهم والحركات {ومنهم من خسفنا به الأرض} وهو قارون الذي طغى وبغى وعتا, وعصى الرب الأعلى, ومشى في الأرض مرحاً, وفرح ومرح وتاه بنفسه, واعتقد أنه أفضل من غيره, واختال في مشيته, فخسف الله به وبداره الأرض, فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة {ومنهم من أغرقن} وهو فرعون ووزيره هامان وجنودهما عن آخرهم أغرقوا في صبيحة واحدة فلم ينج منهم مخبر {وما كان الله ليظلمهم} أي فيما فعل بهم {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}. أي إنما فعل ذلك بهم جزاء وفاقاً بما كسبت أيديهم, وهذا الذي ذكرناه ظاهر سياق الاَية, وهو من باب اللف والنشر, وهو أنه ذكر الأمم المكذبة, ثم قال {فكلاً أخذنا بذنبه} أي من هؤلاء المذكورين, وإنما نبهت على هذا لأنه قد روى ابن جريج قال: قال ابن عباس في قوله: {فمنهم من أرسلنا عليه حاصب} قال قوم لوط {ومنهم من أغرقن} قال: قوم نوح, وهذا منقطع عن ابن عباس: فإن ابن جريج لم يدركه. ثم قد ذكر الله في هذه السورة إهلاك قوم نوح بالطوفان, وقوم لوط بإنزال الرجز من السماء, وأطال السياق والفصل بين ذلك وبين هذا السياق, وقال قتادة {فمنهم من أرسلنا عليه حاصب} قال: قوم لوط, {ومنهم من أخذته الصيحة} قوم شعيب, وهذا بعيد أيضاً لما تقدم, والله أعلم.

** مَثَلُ الّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاّ الْعَالِمُونَ
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله يرجون نصرهم ورزقهم, ويتمسكون بهم في الشدائد, فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه, فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم, إلا كمن يتمسك ببيت العنكبوت, فإنه لا يجدي عنه شيئاً, فلو علموا هذا الحال لما اتخذوا من دون الله أولياء, وهذا بخلاف المسلم المؤمن قلبه لله وهو مع ذلك يحسن العمل في اتباع الشرع, فإنه متمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها لقوتها وثباتها.
ثم قال تعالى متوعداً لمن عبد غيره وأشرك به, إنه تعالى يعلم ما هم عليه من الأعمال ويعلم ما يشركون به من الأنداد, وسيجزيهم وصفهم, إنه حكيم عليم, ثم قال تعالى: {وتلك الأمثال نضر بها للناس وما يعقلها إلا العالمون} أي وما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه, قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى, حدثني ابن لهيعة عن أبي قبيل عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: عقلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل, وهذه منقبة عظيمة لعمرو بن العاص رضي الله عنه حيث يقول الله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن, حدثنا أبي, حدثنا ابن سنان عن عمرو بن مرة قال: ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنني, لأنني سمعت الله تعالى يقول: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}.

** خَلَقَ اللّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّلْمُؤْمِنِينَ * اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصّلاَةَ إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ
يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أنه خلق السموات والأرض بالحق, يعني لاعلى وجه العبث واللعب {لتجزى كل نفس بما تسعى} {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى}. وقوله تعالى: {إن في ذلك لاَية للمؤمنين} أي لدلالة واضحة على أنه تعالى المتفرد بالخلق والتدبير والإلهية, ثم قال تعالى آمراً رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن, وهو قراءته وإبلاغه للناس {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} يعني أن الصلاة تشتمل على شيئين على ترك الفواحش والمنكرات, أي مواظبتها تحمل على ترك ذلك. وقد جاء في الحديث من رواية عمران وابن عباس مرفوعاً «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر, لم تزده من الله إلا بعداً».

(ذكر الاَثار الواردة في ذلك)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن هارون المخرمي الفلاس, حدثنا عبد الرحمن بن نافع أبو زياد, حدثنا عمر بن أبي عثمان, حدثنا الحسن عن عمران بن حصين قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} قال: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له». وحدثنا علي بن الحسين, حدثنا يحيى بن أبي طلحة اليربوعي, حدثنا أبو معاوية عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر, لم يزدد بها من الله إلا بعداً» ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا خالد بن عبد الله عن العلاء بن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس في قوله: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} قال: فمن لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر, لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً, فهذا موقوف. قال ابن جرير: وحدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا علي بن هاشم بن البريد عن جويبر عن الضحاك عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة» وطاعة الصلاة أن تنهاه عن الفحشاء والمنكر.قال: قال سفيان {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك} قال: فقال سفيان: إي والله تأمره وتنهاه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد عن جويبر عن الضحاك عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وقال أبو خالد مرة عن عبد الله ـ: «لاصلاة لمن لم يطع الصلاة, وطاعة الصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر» والموقوف أصح, كما رواه الأعمش عن مالك بن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قيل لعبد الله: إن فلاناً يطيل الصلاة, قال: إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها. وقال ابن جرير: حدثنا علي, حدثنا إسماعيل بن مسلم عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاة لم تنهه عن الفحشاء والمنكر, لم يزدد بها من الله إلا بعداً» والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأعمش وغيرهم, والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يوسف بن موسى, أنبأنا جرير ـ يعني ابن عبد الحميد ـ عن الأعمش عن أبي صالح قال: أراه عن جابر, شك الأعمش, قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فلاناً يصلي بالليل, فإذا أصبح سرق. قال: «سينهاه ما تقول». وحدثنا محمد بن موسى الجرشي, أخبرنا زياد بن عبد الله عن الأعمش عن أبي صالح عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, ولم يشك, ثم قال: وهذا الحديث قد رواه عن الأعمش غير واحد, واختلفوا في إسناده, فرواه غير واحد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو غيره. وقال قيس عن الأعمش عن أبي سفيان, عن جابر قال جرير وزياد عن عبد الله عن الأعمش عن أبي صالح عن جابر.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, أخبرنا الأعمش قال: أخبرنا أبو صالح عن أبي هريرة, قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلاناً يصلي بالليل, فإذا أصبح سرق, فقال: «إنه سينهاه ما تقول».وتشتمل الصلاة أيضاً على ذكر الله تعالى وهو المطلوب الأكبر, ولهذا قال تعالى: {ولذكر الله أكبر} أي أعظم من الأول {والله يعلم ما تصنعون} أي يعلم جميع أعمالكم وأقوالكم. وقال أبو العالية في قوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} قال: إن الصلاة فيها ثلاث خصال, فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخصال فليست بصلاة: الإخلاص, والخشية, وذكر الله, فالإخلاص يأمره بالمعروف, والخشية تنهاه عن المنكر, وذكر الله القرآن يأمره وينهاه وقال ابن عون الأنصاري: إذا كنت في صلاة, فأنت في معروف, وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر, والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر.
وقال حماد بن أبي سليمان {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} يعني ما دمت فيها. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {ولذكر الله أكبر} يقول: ولذكر الله لعباده أكبر إذا ذكروه من ذكرهم إياه, وكذا روى غير واحد عن ابن عباس, وبه قال مجاهد وغيره, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد الأحمر عن داود بن أبي هند عن رجل عن ابن عباس {ولذكر الله أكبر} قال: ذكر الله عند طعامك وعند منامك, قلت: فإن صاحباً لي في المنزل يقول غير الذي تقول, قال: وأي شيء يقول ؟ قلت: يقول الله تعالى: {فاذكروني أذكركم} فلذكر الله إيانا أكبر من ذكرنا إياه, قال: صدق, قال: وحدثنا أبي, حدثنا النفيلي, حدثنا إسماعيل عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {ولذكر الله أكبر} قال: لها وجهان, قال: ذكر الله عندما حرمه, قال: وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه.
قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, أخبرنا هشيم, أخبرنا عطاء بن السائب عن عبد الله بن ربيعة قال: قال لي ابن عباس: هل تدري ما قوله تعالى: {ولذكر الله أكبر} ؟ قال: قلت نعم, قال: فما هو ؟ قلت: التسبيح والتحميد والتكبير في الصلاة وقراءة القرآن ونحو ذلك. قال: لقد قلت قولاً عجيباً وما هو كذلك ولكنه إنما يقول ذكر الله إياكم عندما أمر به أو نهى عنه إذا ذكرتموه أكبر من ذكركم إياه, وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس, وروي أيضاً عن ابن مسعود وأبي الدرداء وسلمان الفارسي وغيرهم, واختاره ابن جرير.